بغداد من منارة إلى صمت في القرن الحادي والعشرين ..هل العراق يقرأ ؟ وهل هناك تراجع في القراءة ؟

يمثل تراجع القراءة في العراق أزمة ثقافية مركّبة ناتجة عن تداخل عوامل اجتماعية، تعليمية، اقتصادية، وأمنية، بالإضافة إلى تأثير التكنولوجيا الحديثة التي غيّرت أنماط الحصول على المعرفة.

 

فعلى الرغم من أن العراق كان منبعًا للحضارات وأحد أعرق مراكز الفكر والإبداع في التاريخ، إلا أن الأوضاع السياسية والاقتصادية المتقلبة أدت إلى عزوف الأفراد عن القراءة، مما خلق فجوة معرفية تهدد التنمية الثقافية والاجتماعية في البلاد. 


غير أن معالجة هذه الأزمة تتطلب استراتيجيات متكاملة تشمل إصلاحات تعليمية، دعمًا حكوميًا للمؤسسات الثقافية، وتحفيزًا للمجتمع على تبني القراءة كجزء من الهوية الثقافية والوطنية.القراءة تعد من أهم الحقوق الأساسية التي يتمتع بها الإنسان، حيث تمكّنه من الانخراط في مفاهيم الحياة المعرفية العالمية.


 ففي المجتمعات التي تحرص على القراءة، تسود مفاهيم العدالة، المساواة، والسلام، وهي أسس تمكّن الأفراد من التفكير النقدي والتحليل المنطقي. من هذا المنطلق، سعت المنظمات العالمية إلى تعزيز ثقافة القراءة عبر العديد من الفعاليات، من أبرزها احتفالات اليونسكو مثل اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف في 23 إبريل، والذي يهدف إلى تذكير العالم بأهمية القراءة كجسر يربط الماضي بالمستقبل، وبين الأجيال والثقافات المختلفة.تتمثل الفوائد العظيمة للقراءة على مستوى الأفراد في تعزيز مهارات التفكير النقدي والتحليل، مما يُسهم في بناء شخصيات مستقلة فكريًا وقادرة على اتخاذ قرارات مدروسة. هذا بدوره ينعكس إيجابًا على المجتمع، حيث يعزز الوعي الجمعي والابتكار والتسامح. ومن المعروف أن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع ككل، والمجتمعات التي تقرأ وتتعلم تميل إلى أن تكون أكثر انفتاحًا ووعيًا وقوة في مواجهة التحديات.


ورغم ذلك، أظهرت الإحصائيات والدراسات تراجعًا كبيرًا في مستوى القراءة في المجتمعات العربية، حيث أظهرت الدراسات أن الفرد العربي يقرأ في المتوسط حوالي 6 دقائق سنويًا مقارنة بـ 200 ساعة سنويًا للفرد الأوروبي. هذه الفجوة الكبيرة تساهم في بطء التطور والنمو داخل المجتمعات العربية. أما في العراق، فقد سجلت البلاد أدنى معدلات قراءة على المستوى العالمي، إذ احتلت المرتبة 96 من أصل 102 دولة. 


على المستوى العربي، جاء العراق في المرتبة العاشرة بين الدول التي تقرأ أكبر عدد من الكتب.عوامل اقتصاديةهناك العديد من العوامل التي ساهمت في تراجع القراءة في العراق، مثل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، بالإضافة إلى التأثيرات التكنولوجية والأمنية. 


فبعد أن كانت بغداد تعد مركزًا ثقافيًا يحتضن القراءة والكتابة، أصبحنا نشهد اليوم عزوفًا كبيرًا عن القراءة في العراق، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع.1. 


العامل الاجتماعي: 


انحسار ثقافة القراءة وانتشار الأمية يعتبر العامل الاجتماعي من أبرز العوامل التي أسهمت في تراجع القراءة في العراق، نتيجة لتدني مستوى الثقافة العامة في بعض المناطق، فضلاً عن البيئة الاجتماعية التي لا تشجع على القراءة. 


إن غياب دور الأسرة في ترسيخ ثقافة القراءة داخل البيت قد أسهم بشكل كبير في تراجع اهتمام الفرد بالكتاب والمعرفة.


بالإضافة إلى ذلك، تلعب الأمية دورًا بارزًا في هذه الأزمة، حيث أظهرت إحصائيات مفوضية حقوق الإنسان العراقية أن نحو 8 ملايين عراقي، معظمهم من الشباب، لا يجيدون القراءة أو الكتابة، وهو ما يعادل نحو 18 بالمئة من إجمالي السكان، نصفهم من النساء. تتفاقم هذه الظاهرة بشكل خاص في المناطق الريفية . 


إصدار البرلمان العراقي قرار لمحو الأمية عام 2011، إلا أنه لم يحقق نتائج ملموسة، بل توسعت الظاهرة بسبب ضعف التنفيذ الحكومي وعدم تفعيل قانون التعليم الإلزامي بشكل كامل.



2. العامل التعليمي: 


ضعف المناهج وغياب المكتبات الحديثةيعد العامل التعليمي من العوامل الجوهرية التي ساهمت في تراجع القراءة في العراق، حيث تعاني العديد من المدارس والجامعات من إهمال كبير في تجهيز المكتبات بالمراجع الحديثة والمتنوعة. إذ أن أغلب الكتب المتوفرة إما قديمة أو تقتصر على الكتب العلمية والأدبية الضيقة. 


كما أن قلة التمويل الحكومي المخصص للمكتبات يُضعف قدرتها على تحديث مقتنياتها.إلى جانب ذلك، فإن نظام التعليم القائم على الحفظ والتلقين بدلاً من التفكير النقدي والبحث المستقل، أدى إلى عزوف الطلاب عن القراءة خارج نطاق المناهج الدراسية، مما أسهم في تراجع حب الاستطلاع المعرفي.



3. العامل التكنولوجي: 


هيمنة الإنترنت وضعف القراءة العميقة رغم أن انتشار الإنترنت سهل الوصول إلى المعلومات، إلا أنه أثر سلبًا على عادات القراءة التقليدية. 


حيث أدى الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى المختصر إلى تراجع الإقبال على قراءة الكتب، إذ يفضل الأفراد استهلاك المعلومات السريعة والمباشرة، مما يعوق الفهم العميق والتحليل النقدي للمعرفة.



4. العامل الاقتصادي والأمني: 


الحروب والأزمات وتأثيرها على الثقافة لعبت الحروب والصراعات المستمرة دورًا جوهريًا في تدمير المؤسسات الثقافية وإضعاف البيئة الداعمة للقراءة. بدأت هذه المشكلة منذ الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، حيث تراجع دور المكتبات والأنشطة الأدبية بسبب التركيز على القضايا العسكرية.انهيار أمنيوفي التسعينيات، أدى الحصار الاقتصادي (1990-2003) إلى تدهور الوضع المعيشي، وأصبحت الكتب تُصنَّف ضمن “الكماليات” لا الضروريات.


 بعد عام 2003، تسبب الغزو الأمريكي وما تبعه من انهيار أمني في نهب المكتبات ودور النشر، مما أدى إلى فقدان العديد من المصادر المعرفية.بالإضافة إلى ذلك، فإن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة اليوم تجعل من الصعب على الأفراد شــــــراء الكتب أو تخصيص وقت للقراءة، حيث باتت الأولويات تتركز على تأمين الاحتياجات المعيشية الأساسية.





لمعالجة هذه الظاهرة، لا بد من اتخاذ تدابير وإصلاحات تستهدف مختلف العوامل المؤثرة على المستوى الفردي والمجتمعي والمؤسساتي. وفيما يلي أبرز التوصيات الممكنة:


1.إطلاق مبادرات ومسابقات وطنية لتعزيز القراءة، مثل مسابقة تحدي القراءة، لتشجيع الأفراد على المطالعة عبر تقديم جوائز للقراء المتميزين.


2.تعزيز تمويل المكتبات العامة والمؤسسية، لضمان تحديث مقتنياتها وتوفير بيئة محفزة للقراءة داخل المدارس والجامعات.


3.تنظيم شراكات بين المؤسسات الحكومية ودور النشر لدعم صناعة النشر وإقامة معارض سنوية للكتب بأسعار مدعومة.


4.إدراج القراءة ضمن المناهج الدراسية عبر حلقات نقاش طلابية حول الكتب، لتعزيز مهارات التحليل والتفكير النقدي.5.توظيف الإعلام والتكنولوجيا لنشر ثـــــــــــقافة القراءة، من خلال إنشاء منصات إلكترونية مجانية توفر الكتب، إلى جانب حملات توعوية على وسائل التواصل الاجتماعي.تمثل أزمة تراجع القراءة في العراق تحديًا ثقافيًا يتـــــــــــطلب جهودًا متكاملة من مختلف الجهات. فبينما تؤثر العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، والتكنولوجية في عزوف الأفراد عن القراءة، لا يزال بالإمكان إعـــــــــــــادة إحياء ثـــــــــقافة المطالعة من خلال مبادرات تعليمية وحكــــــــومية فاعلة. 


إن بناء مجــــــــــــــتمع قارئ ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة حـــــــــــضارية لبناء أمة واعية قادرة على النهوض بالمستقبل.



الكاتب :- فاطمة هشام